اللقاء الأول: بين رفوف الحلم والقدر
في قلب العاصمة التونسية، حيث الأزقة الضيقة والشوارع المعبدة بالحجارة القديمة التي تحمل عبق التاريخ، تقع مكتبة صغيرة تمتاز بجمالها البسيط. هذه المكتبة ليست كالمكتبات الكبرى في المدن الحديثة، بل هي مكان هادئ يعج بالكتب التي تحكي قصصًا تخلد عصورًا ماضية، وتغني أرواح محبي الأدب.
![]() |
بين رفوف الكتب - قصة عشق بدأت صدفة |
في تلك الأيام، كانت الظروف صعبة. فقدت والدها منذ عامين، وأصبحت هي المسؤولة الوحيدة عن أسرتها. والدتها، السيدة الطيبة التي لا تكاد تتوقف عن الدعاء لها، وشقيقتها الصغيرة التي كانت تملأ البيت بالضحك والبراءة، هما عائلتها الوحيدة. ورغم أنها لم تكن تمانع المسؤولية، إلا أن قلبها كان يتوق إلى شيء آخر، شيء بعيد عن الحياة اليومية، شيء يعبّر عن ذاتها.
كان يومًا عاديًا، السماء صافية والشمس مشرقة، حينما دخل شاب إلى المكتبة، يحمل كتابًا قديمًا تحت ذراعه. كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها أيمن مكتبة بهذا الطابع، حيث الأزمنة القديمة تجتمع مع طابع الحداثة المريح. كان يبدو عليه شابًا في مقتبل العمر، أنيقًا، لكنه يحمل في عينيه شيئًا من الحزن، ربما كان يبحث عن شيء لا يعلمه حتى. تذكرته ليلى للحظات، لم يكن لديه ملامح غريبة، لكن كان في عينيه شيءٌ غير مألوف، شيء يثير الفضول.
"السلام عليكم، هل يمكنني الحصول على بعض الكتب الشعرية؟" قالها بابتسامة خفيفة وهو يقترب من ليلى التي كانت مشغولة بتنظيم بعض الكتب على الرفوف.
"وعليكم السلام، نعم، بالطبع. لدينا قسم كامل للشعراء العرب الكبار. هل تفضل الشعر الكلاسيكي أم الحديث؟"
أجاب بابتسامة أكبر، "أعتقد أنني أفضل الكلاسيكي، لأنني أعتقد أن الشعر الحقيقي هو الذي يعيش في قلوب الناس، وليس فقط في صفحات الكتب."
كانت كلمات أيمن تحمل شيئًا مميزًا، نوعًا من الفهم العميق للشعر الذي أحبته ليلى طيلة حياتها. لم يكن مجرد كلام عابر، بل كان كمن يتحدث عن نفسه وعن روحه. شعرته ليلى كما لو أنه كان يتحدث عن شيء ضاع منه، شيء لا يستطيع الوصول إليه. كان واضحًا أنه يحمل داخله هاجسًا أو شعورًا لم يتمكن بعد من التعبير عنه.
"أعتقد أنك على صواب. الشعر القديم يحمل بين طياته حكمًا وأحاسيسًا عميقة جدًا"، أجابت ليلى وهي تشير إلى رف الكتب المخصص للشعراء الكبار مثل المتنبي وأحمد شوقي.
بينما كان أيمن يتفحص الكتب باهتمام، كانت ليلى تراقب حركاته بدقة، لكنها لم تلاحظ ذلك في البداية. لم تكن قد تأثرت كثيرًا بلقاءه الأول، لكن في داخلها كان هناك شيء غريب يحاول أن يلوح لها. هل هو الفضول؟ أم هل كان هناك نوع من التفاعل الروحي غير الملموس الذي جمع بينهما؟
"هل تعجبك الكتب القديمة كثيرًا؟" سأل أيمن وهو يلتقط كتابًا قديمًا ورقة غلافه مهترئة، "أعتقد أن الكتب القديمة تحمل سرًّا خاصًا لا يمكن للكتب الحديثة أن تقدمه."
"أجل، تمامًا. هناك شيء في الورق القديم، وفي الحبر الذي يكتب عليه، يشعرني وكأنني أقرأ تاريخًا حيًا." قالت ليلى، وتوقفت قليلاً عن الحديث، وكأنها اكتشفت في تلك اللحظة أنها تشارك شيئًا عميقًا مع هذا الشاب الذي لا تعرفه. في تلك اللحظات، شعرت ليلى بشيء يشبه الانجذاب الغريب تجاهه، لكنها حاولت أن تتجاهل هذه الأحاسيس.
بينما كانت تتحدث معه، كانت هناك فكرة تتسلل إلى ذهنها: "هل يمكن أن يكون هو ذلك الشخص الذي سيغير شيئًا في حياتها؟" ولكن، لا! كانت مجرد أفكار، لا يجب أن تسمح لها بالاستحواذ على عقلها. لكن شيئًا ما في حديثه كان يحمل نوعًا من السحر الغريب.
حملت ليلى الكتاب الذي اختاره أيمن وأخذت تشرح له بعض القصائد التي يمكن أن يجد فيها ما يبحث عنه. كانت كلماتها لطيفة وسلسة، كأنها تُحدثه عن حياةٍ طويلة عاشتها مع الشعر والمكتبات. وبينما كانت تشرحه له، لاحظت في عينيه بريقًا غريبًا، كان كمن اكتشف شيئًا جديدًا في الحياة، كمن بدأ يستشعر شيئًا عميقًا.
ثم، وقبل أن يغادر، قال لها أيمن: "أنا في رحلة لاكتشاف نفسي، أبحث عن شيء لم أجده بعد في حياتي. ربما هنا في تونس أستطيع أن أكتب أول رواية لي."
ردت ليلى بابتسامة خفيفة: "من يدري؟ ربما تكتبك الكتب، بدلاً من أن تكتبهم."
أجابها أيمن بنظرة تأملية، وكأنها كانت بداية لنقاش طويل لم يكن يعلم أنه سيبدأه معها. "ربما، ولكنني أعتقد أن الكلمات تأتي أولًا من قلب الإنسان، ثم تتحول إلى كتب."
في تلك اللحظة، شعر أيمن بشيء غريب في قلبه، ربما كان الإلهام الذي كان يبحث عنه، أو ربما كانت مجرد بداية شيء آخر في حياته. قلبه كان مليئًا بالأفكار، وعقله مشغول بأشياء لم يكن قادرًا على إدراكها بالكامل.
لكن، كما يحدث دائمًا في القصص الجميلة، جاء وقت الوداع. غادر أيمن المكتبة واعدًا ليلى بالعودة مجددًا. لم تكن ليلى تعرف إذا كانت ستراه مرة أخرى، لكنها كانت تأمل أن يكون ذلك اللقاء مجرد بداية لشيء أكبر، شيء يحمل الأمل والفرص. كانت تتمنى أن يعود ليكمل الحديث معها، ولكنها كانت تعلم في أعماقها أن كل شيء مرهون بالقدر.
بعد مغادرته، وقفت ليلى للحظات، تراقب الأفق من نافذة المكتبة. كان قلبها ينبض بشيء جديد، شيء لا تستطيع تفسيره. كانت هذه المرة الأولى التي تشعر فيها بأن هناك شيئًا أكبر ينتظرها في المستقبل، ولم تكن تعرف إذا كان سيأتي عن طريق الكلمات أو الأشخاص، لكنها كانت تتمنى أن يكون ذلك اللقاء بداية لما هو أفضل.
لكن، هل ستجتمع طريقاهما مرة أخرى؟
نهاية الجزء الأول.
سيتم نشر الجزء الثاني قريبا، ترقبوه في صفحتكم ألف حكاية وقصة